-A +A
عبدالله بن فخري الأنصاري
وسط ارتفاع حدة المواجهة السياسية وتزايد احتمالات اندلاع مواجهة عسكرية بين إيران والقوى العالمية بسبب تداعيات برنامج إيران النووي، تجري مواجهة علنية من نوع خاص بين السلطتين القضائيتين في كلا البلدين تدور رحاها في قاعات المحاكم و تحت قبة الكونجرس الأمريكي والمجالس التشريعية الإيرانية، تتركز حول قضايا التعويض لضحايا الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان. فقد قضت مؤخرا إحدى المحاكم الفيدرالية الأمريكية في 7 سبتمبر 2007م بإلزام إيران بدفع 2.65 مليار دولار لتعويض عائلات 241 جنديا من المارينز قتلوا بتفجير المقر الذي كانوا فيه في بيروت عام 1983م، والتي رأت المحكمة أنه تم بدعم من حكومة إيران وبتنفيذ من أعضاء حزب الله في لبنان. والحكم هو واحد من سلسلة الأحكام الغيابية التي قضت بها المحاكم الأمريكية بتعويض لعدد من المواطنين الأمريكيين بمبالغ ضخمة تصل إلى مليارات الدولارات تتعلق بحوادث قتل وخطف وتعذيب وإرهاب قامت بها جماعات أو منظمات وَجدت المحاكم الأمريكية أنها ممولة من قبل حكومة طهران. وهو ما دعا الجانب الإيراني للرد بأحكام مماثلة ضد الولايات المتحدة قضت فيها المحاكم الإيرانية بتعويضات لعدد من المواطنين الإيرانيين تصل هي الأخرى إلى مليارات الدولارات نتيجة لما زعمت إيران بأنه خروقات أمريكية تتعلق بحقوق الإنسان، أو تدخل سافر في الشؤون الداخلية الإيرانية، أو نشاطات أمريكية إرهابية على حد زعم القضاء الإيراني.
وقد أصبح هذا السجال القضائي بين الدولتين جزءا لا يتجزأ من الحرب الدبلوماسية الأميركية- الإيرانية على الرغم من أن الأهداف الرئيسية التي دعت الولايات المتحدة لتمكين ضحايا الأعمال الإرهابية من الأمريكيين من اللجوء إلى القضاء هي إجبار الدول التي ترعى الإرهاب على دفع ثمن باهظ لأعمالها وردعها عن الإتيان بمثل هذا الفعل في المستقبل. ويعتقد المراقبون أن هذه الأحكام ستدفع إيران إلى دفع تعويضات للضحايا كما فعلت ليبيا في قضية لوكربي، أو أن أسر الضحايا سيتمكنون من وضع اليد على أية ممتلكات إيرانية داخل الولايات المتحدة من أجل تنفيذ الأحكام أو الحجز على الممتلكات الإيرانية في الخارج. إلا أن إيران لم تعبأ بالقانون الأمريكي وتبنت مبدأ المعاملة بالمثل ردا على القضايا المرفوعة ضدها، وعلى ما وصفته إيران بأنه محاولات متكررة من الولايات المتحدة لفرض سيطرتها وهيمنتها على إيران. وقامت المحاكم الإيرانية بقبول دعاوى ضد الولايات المتحدة آخرها ما قضت به محكمة إيرانية في مارس من عام 2004م بإلزام الولايات المتحدة بدفع 1.2 بليون دولار كتعويضات عن أضرار ارتبطت بأعمال عسكرية ضد إيران في الثمانينات. وفي أبريل من عام 2004م طالبت محكمة إيرانية الولايات المتحدة بدفع 600 مليون دولار إلى الجنود الإيرانيينِ الذين أصيبوا بالأسلحة الكيميائية العراقية أثناء حرب 1980-1988م في قضية رفعت من قبل المحاربين الإيرانيين القدماء، ورأت المحكمة الإيرانية آنذاك بأن الولايات المتحدة هي التي زودت نظام صدام حسين السابق بالأسلحة الكيميائية وسمحت له باستعمالها في تلك الحرب.

وقد أعطى القانون في كلا الدولتين الحق للمحاكم بإصدار أحكام غيابية إذا أقام المدعي دعواه على حجج وأدلة مقنعة للمحكمة. إلا أنه لا يخفى على القارئ الكريم أن عبء الإثبات وواجب تقديم البينة في القضايا المدنية هو أقل وطأة منه في القضايا الجنائية، إذ يكفي في إيقاع المسؤولية في القضايا المدنية تقديم المدعي إجراءات وأدلة أقل دقة أو صرامة منها في القضايا الجنائية. وقد ثبت بالتجربة صعوبة تنفيذ الأحكام الصادرة بالتعويض. فهذه الدول لا تعترف بالسلطة القضائية لإحداها على الأخرى. بل أدت سياسات المشرع الأمريكي مضافا إليها إصرار الضحايا الأمريكيين على استلام تعويضاتهم المادية إلى نتائج عكسية تماما وهي تحمل المواطن الأمريكي نفقات وعبء هذه التعويضات. إذ تتردد الإدارة الأمريكية حتى الآن في مصادرة الممتلكات الدبلوماسية الإيرانية لأسباب أمنية منها مخافة أن تتعرض الممتلكات الدبلوماسية الأمريكية في الخارج للمصادرة تطبيقا لمبدأ المعاملة بالمثل.
ولعل التأثير الأكثر عمقا لمثل هذا النوع من القضايا، وخاصة من الجانب الأمريكي، هو استخدام هذه الأحكام القضائية كأحد السبل لحشد الرأي العام الأمريكي والعالمي ضد إيران استعدادا لأي مواجهة عسكرية محتملة معها، وذلك باعتبار طهران مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تلك الأعمال الإرهابية في عدد من مختلف دول العالم، وهو الأمر الذي يثبت مزاعم ضلوع إيران في حماية ومساندة الإرهاب، وتهديدها لأمن واستقرار المنطقة، ويزيد من الضغوط لعزل إيران دوليا، ويعمق من رفض المجتمع الدولي لقبول «إيران نووية»، ويمهد للذهاب لما هو أبعد من العقوبات وهو اللجوء للخيار العسكري للحيلولة دون حصول طهران على السلاح النووي.
afansary@yahoo.com